فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ}
قال أهل التفسير: أقبل أبو سفيان من الشام في عير لقريش، حتى إذا دنا من بدر، نزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فخرج في جماعة من أصحابه يريدهم، فبلغهم ذلك فبعثوا عمرو ابن ضمضم الغفاري إلى مكة مستغيثًا، فخرجت قريش للمنع عنها، ولحق أبو سفيان بساحل البحر، ففات رسولَ الله، ونزل جبريل بهذه الآية: {وإذ يعدكم الله} والمعنى: اذكروا إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين.
والطائفتان: أبو سفيان وما معه من المال، وأبو جهل ومن معه من قريش؛ فلما سبق أبو سفيان بما معه، كتب إلى قريش: إن كنتم خرجتم لتُحرِزوا ركائبكم، فقد أحرزتُها لكم.
فقال أبو جهل: والله لا نرجع.
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد القوم، فكره أصحابه ذلك وودُّوا أن لو نالوا الطائفة التي فيها الغنيمة دون القتال؛ فذلك قوله: {وتَوَدُّونَ أن غير ذات الشوكة} أي: ذاتِ السلاح.
يقال: فلان شاكي السلاحِ؛ بالتخفيف، وشاكٌّ في السلاح؛ بالتشديد، وشائك.
قال أبو عبيدة: ومجاز الشوكة: الحد؛ يقال: ما أشد شوكةَ بني فلان، أي: حَدَّهم.
وقال الأخفش: إنما أنَّث {ذات الشوكة} لأنه يعني الطائفة.
قوله تعالى: {ويريد الله أن يحق الحق} في المراد بالحق قولان:
أحدهما: أنه الإسلام، قاله ابن عباس في آخرين.
والثاني: أنه القرآن، والمعنى: يُحِق ما أنزل إليك من القرآن.
قوله تعالى: {بكلماته} أي: بِعداتِه التي سبقت من إعزاز الدين، كقوله: {ليظهره على الدين كله} [التوبة: 33].
قوله تعالى: {ويقطع دابر الكافرين} أي: يجتث أصلهم؛ وقد بَيَّنَّا ذلك في [الأنعام: 45]. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ}
{إحدى} في موضع نصب مفعول ثان.
{أَنَّهَا لَكُمْ} في موضع نصب أيضًا بدلًا من {إحدى}.
{وَتَوَدُّونَ} أي تحبون.
{أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ} قال أبو عبيدة: أي غير ذات الحدّ.
والشوكة: السلاح.
والشوْك: النبت الذي له حَدٌّ.
ومنه رجل شائِك السلاح، أي حديد السلاح.
ثم يقلب فيقال: شاكِي السلاحِ.
أي تودّون أن تظفروا بالطائفة التي ليس معها سلاح ولا فيها حرب؛ عن الزجاج.
{وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أي أن يظهر الإسلام.
والحَقُّ حَقٌّ أبدًا، ولكن إظهاره تحقيق له من حيث إنه إذا لم يظهر أشبه الباطل.
{بِكَلِمَاتِهِ} أي بوعده؛ فإنه وعد نبيَّه ذلك في سورة الدّخان فقال: {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان: 16] أي من أبي جهل وأصحابه.
وقال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33 والفتح: 28].
وقيل: {بِكَلِمَاتِه} أي بأمره؛ إياكم أن تجاهدوهم.
{وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} أي يستأصلهم بالهلاك. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين} يعني الفرقيتين فرقة أبي سفيان مع العير وفرقة أبي جهل مع النفير {أنها لكم} يعني إحدى الفرقتين لكم.
قال ابن عباس وعروة بن الزبير ومحمد بن إسحاق والسدي: أقبل أبو سفيان بن حرب من الشام في عير قريش في أربعين راكبًا من كفار قريش منهم عمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل الزهري ومعهم تجارة كبيرة وهي اللطيمة.
يريد باللطيمة.
الجمال التي تحمل العطر والبز غير الميرة، حتى إذا كانوا قريبًا من بدر، بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدو وقال: هذه هي عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك انهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربًا فلما سمع أبو سفيان بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة وأمره أن يتي قريشًا يستنفرهم ويخبرهم أن محمدًا في أصحابه قد عرض لعيرهم فخرج ضمضم سريعًا إلى مكة وكانت عاتكة بنت عبد المطلب قد رأت رؤيا قبل قدوم ضمضم مكة بثلاثة أيام أفزعتها فبعثت إليها أخيها العباس بن عبد المطلب.
فقالت: يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني وخشيت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة فقال لها وما رأيت؟ قالت: رأيت راكبًا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته ألا فانفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة فصرخ مثلها بأعلى صوته ألا فانفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ مثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا ودخلها منها فلقة فقال العباس: والله إن هذه الرؤيا فظيعة فاكتميها ولا تذكريها لأحد.
ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة، وكان صديقًا للعباس، فذكر رؤيا عاتكة له واستكتمه إياها فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش بمكة.
قال العباس: فعمدت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في نفر من قريش يتحدثون برؤيا عاتكة فغدوت أطوف فلما رأني أبو جهل قال: يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا.
قال العباس: فلما رغت من طوافي أقبلت إليهم حتى جلست معهم فقال لي أبو جهل: يا بني عبد المطلب متى حدثت هذه النبية فيكم قلت: وما ذاك؟ قال: الرؤيا التي رأت عاتكة قلت وما رأت قال يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم لقد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال انفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يك ما قالت حقًا فسيكون وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتابًا بأنكم أكذب أهل بيت في العرب قال العباس فوالله ما كان مني إليه من كبير شيء إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون عاتكة رأت شيئًا ثم تفرقنا فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقلن أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم حتى تناول النساء وأنت تسمع ولم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت.
قال: قلت قد والله فعلت ما كان مني إليه من شيء وايم الله لأتعرضن له فإن عاد لأكفيكنه، قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى أني قد فاتني شيء أحب أن أدركه منه قال فدخلت المسجد فرأيته فوالله إني لأمر نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به وكان أبو جهل رجلًا خفيفًا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر إذ خرج نحو بابا المسجد يشتد قال العباس: فقلت في نفسي ماله لعنه الله أكل هذا فرقًا مني أن أشاتمه قال فإذا هو قد سمع ما لم أسمع سمع صوت ضمضم بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادي واقفًا على بعيره وقد جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه وهو يقول: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة هذه أموالكم مع أبي سفيان وقد عرض لها محمد في أصحابه ولا أرى أن تدركوها الغوث الغوث قال فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر قال: فتجهز الناس سراعًا ولم يتخلف من أشارف قريش أحد إلا أن أبا لهب قد تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة فلما اجتمعت قريش للمسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناة ابن كنانة من الحرب فقالوا نخشى أن يأتونا من خلفنا فكاد ذلك أن يثنيهم فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وكان من أشراف بني بكر فقال أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه فخرجت قريش سراعًا وخرج رسول الله في أصحابه لليال مضت من شهر رمضان حتى بلغ واديًا يقال له ذا قرد فأتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عن عيرهم فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالروحاء أخذ عينًا للقوم فأخبره بخبرهم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عينًا له من جهينة حليفًا للأنصار يدعى أريقط فأتاه بخبر القوم وسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل عليه السلام وقال: إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إنها لكم إما العير، وإما قريش، وكانت العير أحب إليهم فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في طلب العير وحرب النفير فقام أبو بكر فقال وأحسن وقام عمر فقال وأحسن ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معكم والله ما نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن نقول اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد- يعني مدينة الحبشة- لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له خيرًا ودعا له بخير ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشيروا عليّ أيها الناس» وإنما يريد الأنصار وذلك لأنهم عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في زمامنا فنمنعك مما منع منه أبناءنا ونساءنا.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسيروا معه إلى عدو من بلادهم فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكانك تريدنا يا رسول الله.
قال: أجل.
قال: آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذ البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا أحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا وعدوك إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله أن يريك منا ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة الله تعالى، فسرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك فقال: سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم.
(م) عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب حدثه عن أهل بدر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله تعالى وهذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله تعالى وهذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله تعالى قال عمر فوالذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حدها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقًا فإني قد وجدت ما وعدني الله حقًا فقال عمر يا رسول الله كيف تكلم أجسادًا لا أرواح فيها فقال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا عليه شيئًا» فذلك قوله سبحانه وتعالى: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين} أنها لكم يعني طائفة أبي سفيان مع العير وطائفة أبي جهل مع النفير {وتودون} أي وتريدون وتتمنون {أن غير ذات الشوكة تكون لكم} والمعنى: وتتمنون أن العير التي ليس فيها قتال ولا شوكة تكون لكم والشوكة الشدة والقوة ويقال السلاح {ويريد الله أن يحق الحق} أي يظهر الحق ويعليه {بكلماته} يعني بأمره إياكم بالقتال وقيل بعداته الت سبقت لكم من إظهار الدين وإعزازه {ويقطع دابر الكافرين} أي ويستأصلهم حتى لا يبقى منهم أحد. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم}
{إحدى الطائفتين} غير معينة والطائفتان هما كطائفة غير قريش وكانت فيهما تجارة عظيمة لهم ومعها أربعون راكبًا فيها أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام وطائفة الذين استنفرهم أبو جهل وكانوا في العدد الذي ذكرناه و{غير ذات الشوكة} هي العير لأنها ليست ذات قتال وإنما هي غنيمة باردة ومعنى إثبات الحق تثبيته وإعلاؤه و{بكلماته} بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر وبما ظهر ما أخبر به صلى الله عليه وسلم وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال والمعنى أنكم ترغبون في إبقاء العاجلة وسلامة الأحوال وسفساف الأمور وإعلاء الحق والفوز في الدارين، وشتان ما بين المرادين، ولذلك اختار لكم ذات الشوكة وأراكهم عيانًا خذلهم ونصركم وأذلهم وأعزّكم وحصل لكم ما أربى على دائرة العير وما أدناه خير منهما، وقرأ مسلمة بن محارب {يعدكم} بسكون الدال لتوالي الحركات وابن محيصن {الله إحدى} بإسقاط همزة {إحدى} على غير قياس، وعنه أيضًا أحد على التذكير إذ تأنيث الطائفة مجاز، وأدغم أبو عمرو {الشوكة تكون}، وقرأ مسلم بن محارب بكلمته على التوحيد وحكاها ابن عطية عن شيبة وأبي جعفر ونافع بخلاف عنهم وأطلق المفر مرادًا به الجمع للعلم به أو أريد به كلمة تكوين الأشياء وهو كن قيل وكلماته هي ما وعد نبيه في سورة الدخان فقال: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} أي من أبي جهل وأصحابه، وقيل أوامره ونواهيه، وقيل مواعيده النصر والظفر والاستيلاء على إحدى الطائفتين، وقيل كلماته التي سبقت في الأزل. اهـ.